السبت، 13 أكتوبر 2018

رحلت الأم الثانية "ناديـــــــــــة"

كانت رائعة بما يكفي لتجعل زوجات أولادها يعتبرونها أمهم الثانية. جميعهم كانوا يصرخون بالأمس بل ويبكون بحرقة، ويرددون "لقد رحلت أمنا الثانية"، كانت تختلف عن حموات هذا القرن الغريب كانت تتقاسم مع أختي الكبيرة السهر حينما كان أولادها صغارًا رأيتها تحمل صغار أختي كثيرًا وأختي كانت تباشر عملها الحكومي أو المنزلي بسلاسة، كانت تضعهم في حضنها ثم يَتَّكِئُونَ على كتفها وينامون كانت تجلس وأحيانا اخرى تتمشى بهم أمام المنزل ليتوقفوا عن البكاء، كنت أراها وأبتسم وأدعو لها كم كانت خير معين، لم تتدخل في شئون حياة أختي الزوجية واعتقد أنها من الأمهات القلائل في عالمنا الظالم اللاتى يمكنهن نصف زوجات أولادهن علي أولادهن أنفسهم فيكفي أنها لم تراهم ملائكة بل بشر مخطئون.
كانت تطرق باب أختي في الصباح -ورأيت ذلك بعيني مرارًا وتكرارًا- ثم تفتح الباب لتترك خيرات الله لها اللبن، الجبن، الزبد، والعيش البلدي وكل شئ لم تزوج أولادها كي يخدمها زوجاتهم بل كانت هي من تخدم الجميع وهي سعيدة كانت تفتح ثلاجة أولادها ليس تطفلًا -كما تفعل بعض الحموات لتعرف ما تخبئه زوجة ابنها في هذا الاختراع من وجهه نظرهم- بل بالعكس كانت تستكشف ما ينقص هذه الثلاجة الفقيرة أحيانًا وتأتي لهم بما لديها وسألت أختي كثيرا من أين لك هذا فتقول أكيد من عند "أم طــه".
كانت رائعة حتى مع زوجات أولادها الأخريات وليس مع أختي فقط التي هي في نفس الوقت ابنه خالها.
كانت رائعة مع الكل حتى مع زوجها فكانت هي خير صديق ومعين له أوقات الأزمات وكانت عينيه التي يرى بها في الوقت التي قست علية آلام عينية المتكررة وحجبت عنه وضوح الرؤية هو الآن وحيد بدونها وحزين عليها لدرجة كبيرة، لدرجة جعلته يوم وفاتها يتمنى الموت بدلا منها، هذا الحب الذي زرعته ابنه عمتي بداخل كل منا سيظل محفورا في الأعماق. 
لم تكن متطفلة ولن تمارس جبروت الحماة المصرية ولن تتدخل في ذهابهم وإيابهم لن تسأل زوجات أولادها إلى أين سيرحلون ومتي سيعودون او ماذا يشترون وما يفعلون.
كانت تمرض وتُخفي مرضها؛ كي لا تقلقهم عليها فرغم أنها كانت تحمل على عاتقها مشاكل الجميع بل وتحمل الصغار بنفسها إلي المستشفي لتطمئن على صحتهم إلا أنها لم ترد أن يتحمل أي فرد من عائلتها مسئولية مرضها.
كانت ترفض الذهاب بها إلى الطبيب وتقول: "أنا بخير"، مرضت فجأة ودخلت المستشفي وتوفت في خلال أسبوع ولم تنطق للأطباء أو لأولادها إلا عبارة "الحمد لله لا تقلقوا أنا بخير" حتى وهي تحتضر لا تريد أن تقلقهم، تلك الشخصية التي تفني من أجل الآخرين لا أرى لها مثيلًا .
لم تُكمل تعليمها رغم رجاحه عقلها وبلوغ فكرها السابق سنه -فماذا كانت ستقعل في الموروثات الثقافية في القرن 20 -رغم كل ذلك إلا أنني كنت أراها جديرة أكثر منى بأن تلتحق بكلية الإعلام جامعة القاهرة عام 2006 كانت تعشق الدخول معي ومع غيري في المناقشات المختلفة .
قبل التحاقي بالكلية، كنت أحيانا أخاف من أسئلتها الذكية وثقافتها العالية كما كنت أخاف الفشل في الإجابة عليها، كانت تعشق وسائل الإعلام وتتابع أغلب البرامج التليفزيونية كان لديها القدرة على النقاش مع أي فرد في شتي المجالات السياسية والاقتصادية والرياضية والمنزلية وكل شئ كونها ربه منزل لم ينقص من شخصيتها أي شئ بالعكس بل زادها تنور وحضارة، فقد استغلت وقت الفراغ في تعويض ما فاتها في الدراسة، فغيرت فكرى بأن التعليم ليس فقط في الشهادات بل بخبرات الحياة وكنت أراها وسأظل أراها أجدر منى في النقاش في شئون الحياة لم تختلف عن من التحقن بالمدارس بل بالعكس رايتها أفضل منهم، فكانت تقرأ القرآن وتختمه كانت تتسم بالخلق الطيب والتدين المعتدل والثقافة والأدب فما الأشياء التي كانت ستضيفها المدارس الحكومية أو الجامعة لها ، فكثيرون من يتعلمون الآن ولكن لن يصلحن لأي شئ في الحياة أو حتى بناء أسرة وهي بحبها وعطفها قامت ببناء وتربية أربع أسر معها في منزل واحد. 
رحمك الله يا ابنه عمتي الغالية ورزقك الله الجنة